الجمعة، 25 مايو 2012

تسع وقفات علمية مع الانكار على ولاة الأمور

..
بسم الله الرحمن الرحيم
..
حوار سلفي مع عالم سلفي
وقفات مع تعليق فضيلة الشيخ صالح اللحيدان على القرار الملكي
..

الوقفة الأولى:
..
       العالِم مهما علا قدره فإنه لا يسلم مِن زلّة يخالف فيها الصواب، وهو وإن كان مُحبّباً إلا أن السنة أحبّ إلى القلب منه، بل من الوالد والولد والناس أجمعين.
..
      وقد بيّن سلفنا الصالح رضي الله عنهم ورحمهم الموقف من زلّة العالِم، وأنه يجب الاعتصام بالسنة، مع الاعتذار له، والإعراض عن الخطأ، وأخذ القول المحكم عند أهل العلم الذين وافقوا الحقّ في هذه المسألة.
..
     قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إياك وزلّة العالِم) قيل: (وكيف تكون زلّة العالِم)؟ قال: (إن على الحق نوراً يُعرف به).
..
    وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه:
(ألا لا يُقلِّدن أحدُكم دينَه رجلاً؛ إنْ آمن آمن! وإن كفر كفر! فإن كنتم لا بد مقتدين فبالميت؛ فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة).
..
    وقال الأوزاعي رحمه الله: (ندور مع السنة حيث دارت).
..
الوقفة الثانية:
..
   تكثر الفتن آخر الزمان؛ حتى يراها الناسُ معروفاً ويرون السنة منكراً! وقد يهلك فيها الكبير قبل الصغير؛ بل حتى العالِم! ولا نجاة إلا لمن تمسك بالسنة.
..
     قال الزبير بن عدي رحمه الله: أتينا أنس بن مالك رضي الله عنه فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج! فقال: (اصبروا؛ فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم؛ سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم).
..
      وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير ويتخذها الناس سنة؛ فإن غُيّر منها شيء قيل غُيّرت السنة)؟!
..
      وقال يونس بن عبيـد رحمه الله: (ليس شيء أغـرب من السـنة، وأغرب منها من يعرفها).
..
     وقال الزهري رحمه الله: كان من مضى من علمائنا يقول: (الاعتصام بالسنة نجاة).
..
الوقفة الثالثة:
..
    مما جاء عن السلف رضي الله عنهم ورحمهم أن النصيحة لولي الأمر لا تكون إلا سرّاً  ، وهذا المعنى مروي عن غير واحد من السلف، بل هو أمر مستقرّ عندهم.
..
   قيل لأسامة بن زيد رضي الله عنه: (لو أتيتَ عثمان فكلّمته)! فقال: (إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟! إني أكلّمه في السرّ دون أن أفتح باباً لا أكون أول من فتحه).
..
   وقال سعيد بن جمهان رحمه الله: أتيت عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه فقلت له: (إن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم)! فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة، ثم قال: (ويحك يا ابن جمهان! عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته فأخبره بما تعلم، فإن قبل منك وإلا فدعه فإنك لست بأعلم منه).
..
      وسأل سعيدُ بن جبير رحمه الله ابنَ عباس رضي الله عنه: (آمر إمامي بالمعروف)؟
قال: (إن كنت ولا بدّ فاعلاً ففيما بينك وبينه، ولا تغتب إمامك).
..
    وقال عبدالله بن عكيم رضي الله عنه: (لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان)،
قيل له: (يا أبا معبد؛ أو أعنتَ على دمه)؟ فقال: (إني أعدّ ذكر مساويه عوناً على دمه).
..
وقال الشوكاني رحمه الله: (ولا يُظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد،
بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة، ولا يذلّ سلطان الله).
..
    وقال ابن باز رحمه الله: (ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر; لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف, ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع, ولكن الطريقة المتّبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان والكتابة إليه أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به).
..
       وقال ابن عثيمين رحمه الله: (فلا تغتر بمن يفعل ذلك وإن كان عن حسن نية؛ فإنه خلاف ما عليه السلف الصالح المقتدى بهم).
..
الوقفة الرابعة:
..
   جاء عن السلف رضي الله عنهم ورحمهم الإنكارُ على ولي الأمر علانية حال وقوعه في الخطأ، بحيث يكون الإنكار والنصح أمامه لا في غَيبته من وراء ظهره.
..
    وفي هذا المعنى ما قال طارق بن شهاب رحمه الله: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة؛ مروانُ! فقام إليه رجل فقال: (الصلاة قبل الخطبة)! فقال: (قد تُرك ما هنالك)! فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (أما هذا فقد قضى ما عليه؛ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).
..
الوقفة الخامسة:
..
      مما تقرر عند أهل العلم تركُ الإنكار عندما تترتب عليه مفسدة أعظم من المنكر! بل ذكر ابن القيم رحمه الله أنه يكون محرماً في هذه الحال!
..
      قال ابن باز رحمه الله: (القاعدة الشرعية المجمع عليها أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشرّ منه؛ بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه، أما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين).
..
      فإذا كان هذا في الإنكار الذي تترتب عليه مفسدة أعظم من المنكر؛ فما بالك بالإنكار العلني في غَيبة ولي الأمر، وهو إنكار غير شرعي على ما تقدم ذكره.
..
الوقفة السادسة:
..
      عند انتشار الثورات وتساهل الناس في بيعة ولي الأمر والوقوع فيه؛ يتأكد التواصي بالسمع والطاعة وتعاهد هذا الأصل وتثبيته وتقويته وذكر حسنات ولي الأمر بدون كذب ولا مبالغة ولا تسويغ منكر ولا أمر بمعصية.
..
     وهذا المعنى مروي عن السلف رضي الله عنهم ورحمهم؛ فقد سُئل ابن عمر رضي الله عنه عثمان رضي الله عنه، فذكر أحسن أعماله، ثم قال للسائل: (لعل ذلك يسوءك)؟ فقال: (أجل)، فقال: (أرغم الله بأنفك).
..
الوقفة السابعة:
..
     يتبين مما تقدم؛ أن فضيلة الشيخ صالح اللحيدان حفظه الله خالف السلف رضي الله عنهم ورحمهم في ذكر النصيحة والإنكار على ولي الأمر من وجهين:
..
الوجه الأول:
إنكاره ونصحه العلني وفي وسيلة إعلامية.
..
الوجه الثاني:
عدم قيامه بالنصح والإنكار في وقته وأمام ولي الأمر، لا سيما والشيخ كان حاضراً وقت تلاوة القرار.
..
الوقفة الثامنة:
   يظنّ بعض الناس أنه يجوز له إعلان النصيحة بحجة إبراء الذمة أو بيان الحقّ؛ وهذا من تلبيس إبليس؛ بل هو المفسدة بعينها! وما من نصيحة إلا ويراد بها هذا! .. والذي يُقال: أن الذمة تبرأ فيما بين العبد وربه؛ ولا يلزم أن يُعلن على الملأ براءة ذمته، كما لا يلزم من إبراء الذمة إظهار مخالفة ولي الأمر.
..
     والواقع يشهد بذلك؛ فمع وجود البنوك الربوية وعدم منعها من الحكومة؛ إلا أن الحاكم لا يُلزم الناس بها ولا يحملهم عليها؛ والعلماءُ في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية كثيراً ما يُفتون بتحريم الربا ويحذرون منه، وبمقدور العالِم أن يفتي بتحريم الأمر دون ذكر ما يتعلق بولي الأمر.
..
     قال ابن باز رحمه الله: (وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل؛ فينكر الزنا وينكر الخمر وينكر الربا من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن يذكر فلانا يفعلها لا حاكم ولا غير حاكم).
..
الوقفة التاسعة:
..
       مما امتاز به منهج السلف الصالح عن بقية الفرق والمذاهب؛ أن السنيّ السلفيّ إذا اعتقد عدم عصمة العلماء؛ عمل بما يعتقد، وطبّقه على الواقع؛ فلا يزال أهلُ السنة يردّون على المخطيء ويُبيّنون الخطأ ولا يقرونه؛ مهما كان صاحبه، بخلاف أهل الأهواء الذين يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يعتقدون.
..
     وللشيطان في هذا الباب مداخل:
..
    منها إيهام الناس أن   الـرادّ لا بدّ أن يكون في منزلة المردود عليه !
..
   وهذا الشرط لا قيمة له؛ لأنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولا يعرفه سلفنا الصالح، بل إن في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكراً)؛ ما يُبطل هذا الاشتراط؛ حيث جاء الحديث بصيغة العموم (من)؛ فيدخل فيه كل مسلم عرفَ الحقّ في هذه الواقعة وتمكن من الدليل في تلك المسألة.
..
      وليت شعري كيف يطيب عيش لمؤمن وهو يُعرض عن أقوال الصحابة رضي الله عنهم بحجة النظر في منزلة مَن دلّ على هذه الآثار؟! وهل يريدون أن يبعث اللهُ فينا ابن عباس وابن عمر من جديد حتى تُؤخذ أقوالهم؟!
..
       قال الأوزاعي رحمه الله:
(عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآثار الرجال وإن زخرفوا لك القول).
..
    ثم إنك ترى كثيراً من إخواننا الذين يتحجّجون بهذا؛ يُردّدون الحديث الذي لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (الحكمة ضالة المؤمن)، بل يَقبلون كلام الكافر والمفكر والمثقّف بمجرّد أنهم لا يرون فيه مصادمة للشرع! بل يستشهدون بالقصة المروية عن أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان لما تعلّم منه فضيلة آية الكرسي! ومهما بلغتُ من السوء فلن أكون أضلّ من الشيطان الرجيم!
..
       ومما يؤلمني أن أرى كثيراً من أهل الخير والصلاح؛ يعتقد أفضلية السلف من الصحابة والتابعين؛ اعتقاداً نظرياً لاعملياً! فتراه يوقّرهم ويُعظّم جهادهم وعبادتهم وإيمانهم وحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم ويدافع عنهم ولا يرضى بالوقيعة فيهم، وكل هذا خير؛ إلا أنه لا يُعظم المأثور عنهم من عقيدة ومنهج وتفسير وفقه وأدب! بل لسان حاله أنهم كغيرهم ممن جاء بعدهم! فلنتّق الله ولنعلم أن الاعتقاد المجرّد عن التطبيق لا ينفع صاحبه.
..
    قال ابن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم متأسياً فليتأسّ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلهاً تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فاعرفوا لهم فضلهم، واتّبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).
..
ومن مداخل الشيطان:
..
أن يوهم الناس بأن هذه فتنة وأن الواجب اعتزالها وعدم الخوض فيها!
..
والحقّ أن الفتنة تأتي على معنيين:
..
المعنى الأول:
الأمر المشكل الذي لم يتبيّن وجهه ولم يُعرف فيه الحق من الباطل؛ وهذا الذي لا يخوض فيه المسلم ولا يتكلم به كل أحد.
..
والمعنى الثاني:
الأمر الذي يزلّ فيه الناس لكن يُعرف فيه وجه الحق من الباطل؛ وهذا الذي يجب بيانه ونشر كلام السلف فيه والتواصي به وحمل الناس عليه.
..
ومن مداخل الشيطان:
..
إقناع الناس بأن الناصح يتتبّع العلماء ويتصيّد عليهم!
..
  لا شكّ أن هناك من يسعى لإسقاط العلماء كالليبراليين المفسدين والخوارج الثوريين؛ لكن يجب التفريق بين من يريد إسقاط العلماء وبين من يتأدب معهم ويعتذر لهم ويكتب حفظاً للدين ونصحاً للأمة، ويشهد الله أنني من أشدّ الناس بغضاً للمخالفين من أهل البدع وأهل الشهوات، ولولا أن يتهاون الناس في توقير ولي الأمر ويُشكّكون في وجوب الإسرار بالنصيحة له؛ لما كتبت هذا المقال.
..
   قال أحدهم لأحمد بن حنبل رحمه الله: (إنه يثقل عليّ أن أقول فلان كذا وفلان كذا)! فقال: (إذا سكتّ أنتَ وسكتّ أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم)؟!
..
ومن مداخل الشيطان:
..
        إيهام الناس بأن النصح العلني لمن هو مثل الشيخ صالح اللحيدان يعدّ مخالفة لأنه يجريء الناس على العلماء،
وقد يقول قائل: بما أنك تطالب بالنصح في السرّ؛ فلماذا تخالف ما تقول؟!
..
      ولو تأمل المُعتَرِض؛ لعلم أن المنهي عن إعلانه هو نصح ولاة الأمور، أما العلماء فلا يزال السلف رضي الله عنهم ورحمهم يُنكر بعضهم على بعض ويُناصح بعضهم بعضاً، نعم؛ الرد على العالِم فيه نوع مفسدة بلا شك! وقد يُساء بالرادّ الظنّ! وقد يفرح به المفسدون! لكن مَن عظّم السنةَ علم أن مفسدة السكوت عن الخطأ في الدين أعظم من مصلحة السكوت عن خطأ العالِم؛ فدين الله مقدّم على الرجال مع حفظ قدر العالِم ومنزلته.
..
قيل لابن المبارك رحمه الله: (يا أبا عبد الرحمن؛ أتغتاب) ؟ فقال: (اسكت ؛ إذا لم نُبيّن كيف يُعرف الحق من الباطل)؟!

                              منقول من مدونة الشيخ /بندر العتيبي - وفقه الله-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق